المسحل وإمارة الغوص (٢)

المسحل وإمارة الغوص (٢)

 

في بدايات القرن التاسع عشر للميلاد وبالتحديد منذ عام 1820م وما بعدها وقعت جميع مشيخات بلدان الخليج العربي الساحلية عدة اتفاقيات مع السلطات الإنجليزية من مقر حكمها في  مومباي بالهند والتي اطلق عليها معاهدة السلم البحري الشاملة حيث تقتضي في بنودها عدم التجارة بالأسلحة والرقيق (الموالي) ومحاربة القرصنة البحرية ، وبقيت مناطق متذبذبة وغير تابعة لمشيخات ساحل الخليج العربي كالدوحة والوكرة والعديد بجنوب قطر والتي لم توقع على تلك الاتفاقية حيث انها لا تنتمي للبحرين ولا تنتمي لبلدان ساحل عمان المهادن وإن كان ترابطها بساحل عمان أكثر تواصلاً ، فبقيت مستقلة بحكم ذاتها فترةً من الزمن رغم ادعاء البحرين بتبعيتها لها ولكن شيوخ تلك المناطق بجنوب قطر كانوا لا يعترفون بتلك التبعية التي أوقدت العديد من الحروب الطاحنة حتى استقلال قطر بحكم نفسها بعد عام 1871م تحت حكم آل ثاني.

 

فكانت تجارة الرقيق والأسلحة هي التجارة الرابحة آنذاك رغم العقوبات المشددة التي يفرضها الإنجليز على مرتكبيها من غرامات مالية باهظة ومصادرة السفن والبضاعة وتصل أحياناً إلى النفي والسجن في مومباي بالهند ، ومع ذلك فقد عُرف عن نواخذة (قباطنة) آل بوعينين حدة ذكائهم ونباهة فطرتهم ومعرفتهم بالمسالك البحرية وطرق التمويه و وصلت نباغة اذهانهم بأنهم يستطيعون رمي ما لديهم من أسلحة في عمق البحر ليلاً أو نهاراً قبل مداهمة وتفتيش الإنجليز لسفنهم ويعودون بعد أيام أو أسابيع لمكانهم السابق بالدقة والتحديد ويستخرجون منه ما تم رميه واخفاؤه في قعر البحر. ويعتمدون بذلك على مواقع النجوم ليلاً كما قال تعالى : (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) وفي النهار يعتمدون على معرفتهم بمواقع الشعب المرجانية ومواقع هيرات الغوص (مغاصات اللؤلؤ) وعمق مياه البحر ونوعية قيعانه من ترابية أو طينية أو حجرية ومسافة قربها من الجزر أو السواحل المعروفة .

 

وبرز في آل بوعينين العديد من الأسر  في تلك الخبرات وتلك التجارة ومنهم المسحل و الجابر و الجبران و البوحمود و الشاهين ومن أشهرهم الشيخ عبدالرحمن المسحل بن عبدالله بن ناصر الناصر آل بوعينين الذي كان جسوراً شجاعاً ومقداماً ذو همةٌ وتميز بالدهاء وروح المغامرة إضافة لكونه السردال (أمير الغوص) في الوكرة بقطر وذلك لخبراته الواسعة في هيرات الغوص (مغاصات اللؤلؤ) في جميع سواحل الخليج العربي من جنوبه إلى شماله. وكان من كبار الطواشين (تجار اللؤلو) في قطر ، كما عُرف عنه قبل ذلك بتجارة الأسلحة التي كان يجلبها  من مسقط ويبيعها لشيوخ البحرين وقبائل قطر غير مبالٍ للعقوبات الشديدة التي يفرضها الأسطول البحري للسلطات الإنجليزية آنذاك ، بل كان يخترق كل الرقابة البحرية الإنجليزية بكل سهولة، وحينما تضطره الظروف إلى المواجهة معهم فإنه يعمد إلى عنصر الدهاء والمفاجأة فيباغتهم برد ٍ سريعٍ خاطف ٍ لم يكن في حسبانهم فيربكهم ويختفي عن أنظارهم فلا يجدون له اثراً .

 

ومن تلك المواقف قصته عندما كان عائداً  بسفينته المحملة بالأسلحة من مسقط إلى قطر فاعترضته في البحر إحدى قطع الأسطول الإنجليزي بالخليج وأشار قائد السفينة الإنجليزية عليهم بالتوقف لتفتيش سفينتهم وإلا تعرضوا للقصف المدفعي من السفينة الإنجليزية فأوقف الشيخ عبدالرحمن المسحل سفينته للتفتيش على مسافة بعيدة وقد اتفق مع طاقم البحارة بسفينته على تفاصيل خطة محكمة لتنفيذها ، واقتربت السفينة الإنجليزية لمسافة ٍ قريبةٍ جداً من سفينتهم تصل إلى أقل من مترين، وحينما قام الضابط الإنجليزي بالقفز إلى سفينة الأسلحة فاجئُه الشيخ عبدالرحمن المسحل بطلقة نارية من بندقيته القصيرة التي يخفيها وراء ظهره فأوقعته جريحاً في البحر و ارتبك الجنود الإنجليز بإصابة قائد سفينتهم وانشغلوا بإنقاذه من البحر .

  حينذاك قام بحارة سفينة الشيخ عبدالرحمن بفل أشرعة السفينة والإبحار بها إلى أقرب منطقة ساحلية وكان ساحل بلدة دبي هو الأقرب لهم فوصلوها مساءً وسحبوا سفينتهم إلى الساحل و انزلوا صناديق الأسلحة منها وأخفوها في أحد المنازل في دبي وأمروا بعض القلاليف (عمال صيانة السفن) بإعادة دهان السفينة بالصل (صبغ خاص لدهن جوانب السفن الخشبية وحمايتها من مياه البحر وعوالقه) على وجه السرعة كما أوصوا عمال الصيانة بالرد على كل من يسألهم عن السفينة بالإجابة بأنها راسيةً على الساحل منذ أكثر من شهر ، وأوصى الشيخ عبدالرحمن بحارة سفينته بالتفرق في أنحاء دبي لمدة أسبوعين والاندماج بالمجتمع الساحلي في دبي بلبسهم وعاداتهم وبعد تلك الفترة يجتمعون عند سفينتهم للعودة بها إلى قطر .

 

 بعد ذلك بثلاثة أيام وصلت إلى ساحل دبي السفينة الإنجليزية للتفتيش عن السفينة التي هاجمتهم بعد أن فتشوا سواحل بلدة عجمان وبلدة الشارقة ولم يجدوها.

عندما وصلت سفينة الإنجليز إلى ساحل دبي نزل قائدها مع جنوده و بدؤوا بتفتيش السفن حتى وقع نظرهم على سفينة الشيخ عبدالرحمن المسحل واشتبهوا بها ولكنها تبدو جديدة المظهر بعد أن تم دهانها فسألوا الناس القريبين منها عنها فقالوا لهم أنها راسيةٌ على الساحل منذ أكثر من شهر وأهلها ذهبوا عنها لزيارة أهلهم في العمق البري لدبي ، وكان الشيخ عبدالرحمن المسحل قد أكرم هؤلاء الأشخاص وأوصاهم بهذا الرد لكل من يسألهم عن السفينة ، فانطلت الحيلة على الضابط الانجليزي وجنوده وتركوا السفينة بعد أن زالت شكوكهم حولها ، وهم يعتقدون أن السفينة المهاجمة قد واصلت ابحارها إلى ساحل ابوظبي .

بعد ذلك بعشرة أيام اجتمع الشيخ عبدالرحمن المسحل مع بحارته وعادوا بسفينتهم بسلام إلى الوكرة بقطر.

 

مقتطفات من سيرته :

هو الشيخ السردال (أمير الغوص) عبدالرحمن المسحل بن عبدالله بن ناصر بن علي بن ناصر الناصر  آل بوعينين، رغم أن الشيخ عبدالرحمن المسحل عاصر في زمن والده الكثير من الحروب والهجرات إلا أن مرافقته له ولأعمامه اكسبته خبرات بحرية كثيرة ومعرفةً أوسع في مواقع هيرات (مغاصات اللؤلؤ) وأماكن أجود أنواعها حيث تولى إمارة الغوص في أواخر حياة والده فكسب شهرةً واسعةً فكانت جميع سفن الغوص بالوكرة في قطر لا تبحر إلا بإمرته ولا تعود من القفال (رحلة العودة من الغوص) إلا بعد اطلاق مدفع سفينته ايذاناً لهم بالعودة ، فكان يجوب بالسفن أثناء الغوص جميع السواحل بقرب البحرين وسواحل قطر وجزر ابوظبي وعُمان وكذلك جزيرة قيس ومنطقة جارك والجزر الممتدة على ساحل فارس أثناء موسم الغوص الذي يستمر موسمه قرابة ثلاثة أشهر ، فاشتهر بلقب المسحل اشتقاقاً من السواحل البحرية التي يجوبها ، وقيل بسبب سحله لقوى وأجساد أهل البحر فيرجعون إلى أهاليهم بعد رحلة الغوص وقد نحفت أبدانهم وهزلت من رحلة الغوص الشاقة ، والمسحل باللغة العربية هو المِبرد والمسن الذي يُسن به جوانب المواد الصلبة .

 

أما مواطن هجرات الشيخ عبدالرحمن المسحل الذي ولد في الدوحة قرابة عام 1810م وعاصر معركة قصف الإنجليز للدوحة عام 1821م بمدمرتهم البحرية (فستال) ، وتدمير الشيخ عبدالله بن احمد آل خليفة شيخ البحرين لحصني آل بوعينين (البدع والدوحة) عام 1828م حيث هاجر منها الشيخ عبدالرحمن المسحل إلى الوكرة التي أسسها عمه الشيخ علي بن ناصر بن علي آل بوعينين  ومنها إلى أبوظبي عام 1838م فجزيرة قيس العربية على ساحل فارس عام 1840م فالوكرة عام 1842م ثم قيس مرة اخرى عام 1847م فالدمام عام 1851م ليستقر به المطاف في الوكرة عام 1863م والتي توفي بها قرابة عام 1900م/1318هـ عن عمرٍ تجاوز 90 عاماً بعد أكثر من نصف قرن قضاها مشاركاً لوالده في إمارة الغوص أو منفرداً بها ، وقد انجب من الأبناء عبدالله وناصر رحمهم الله .

 

انتقلت إمارة الغوص بعده لابنه الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن المسحل آل بوعينين الذي ولد في الوكرة قرابة عام 1860م/ 1277هـ وعاصر معركة جبل الوكرة (الطويلة) في طفولته عام 1868م ، كما تميز كوالده بالدهاء وسعة المعرفة ورجاحة البصيرة إضافة إلى إمارته للغوص وخبراته الواسعة في مغاصات اللؤلؤ ، وكان من كبار الطواشين (تجار اللؤلو) في قطر و الجبيل، وكان له منزلاً في الوكرة بقطر ومنزلاً آخر في بلدة الحالة بالبحرين وعندما قرر آل بوعينين الهجرة من الوكرة في قطر أرسلوا في طلب الشيخ عبدالله المسحل للتشاور معه لاختيار موقع جديد للهجرة له فأشار عليهم باستيطان الجبيل وإعادة إحياء (عينين) موطنهم الجاهلي القديم والذي منحه الإمام فيصل بن تركي آل سعود لعم والده الشيخ فضل بن ناصر بن علي آل بوعينين عام 1851م .

 

وقام الشيخ عبدالله المسحل برئاسة وفد آل بوعينين لاستكشاف منطقة الجبيل (عينين) فوجدوا بقرب سواحلها كثرة مغاصات اللؤلؤ و وفرة المياة العذبه في برها وبحرها ووجدوا ملائمة سواحلها وعمق مياهها الثابتة لرسو سفنهم والعديد من أراضي الرعي الواسعة المحيطة بها إضافة لخلوها من تبعية مشيخات وإمارات الخليج العربي الساحلية ، فوطدوا العزم على الهجرة لها واستيطانها .

 

 في 27 من شهر رمضان عام 1327هـ الموافق 12 من شهر اكتوبر عام 1909م كانت سفينة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن المسحل في طليعة سفن آل بوعينين التي وصلت لساحل الجبيل، فكان من أوائل من استوطن الجبيل وساهم بتخطيطها، وحظي بإمارة الغوص بها ، وكانت له الكلمة المسموعة لدى الجميع لوجاهته ومحبة الناس له، وكان يملك ثلاث سفن للغوص (بومان وجالبوت) فالبومان (السفينتان الكبيرتان)كان قبطانيهما ابنيه عبدالرحمن ومحمد بينما كان الجالبوت (السفينة الأصغر) له لممارسة الطواشة (تجارة اللؤلؤ).

  إضافة ً إلى ذلك كان من أوائل من استوطن منطقة العبا التي تبعد عن الجبيل 30 كيلو مترا جنوباً وحفروا ينابيعها واقاموا عمرانها وزرعوا النخل بأراضيها عام  1924م/ 1342هـ  .

 

كما كان أول من استوطن منطقة ابو معن القريبة من العبا وعمّرها وزرع أراضيها مع قريبه الشيخ مبارك بن عمهج بن مبارك الحسن آل بوعينين عام 1348هـ /1929م ، وقد توفي رحمه الله عام 1370هـ / 1950م وهو يمشي على ساحل الجبيل الشرقي برفقة ابن حفيده ناصر بن فضل بن محمد بن عبدالله المسحل عن عمر  ٍ قارب 90 عاماً .

الرواة :

·     الشيخ محمد بن عبدالله بن عبدالرحمن المسحل آل بوعينين رحمه الله المتوفى في الجبيل عام 1415هـ

·     الوجيه مبارك بن عبدالرحمن بن عبدالله المسحل آل بوعينين حفظه الله

·     الأستاذ عبدالله بن عيد بن محمد المسحل آل بوعينين حفظه الله الذي كان يحفظ عن جده الشيخ محمد بن عبدالله المسحل الكثير من الروايات والقصص التاريخية عن اجداده

الخلاصة :

هناك مثل عربي يقول (اعط القوس باريها) كذلك امارة الغوص وجاهة فخرية وعمليه لا ينالها إلا من كان حريٌ بها وضارٍ بفنونها وعارفٍ بأصولها حيث تبحر جميع سفن الغوص تحت قيادة (السردال) أمير الغوص ولا ترجع لبلدها الا بعد اطلاق مدفع سفينته إيذاناً لها بالقفال (رحلة العودة من الغوص) بعد رحلة غوص تستمر نحو 3 أشهر في البحر ، وقد توارثت أسرة المسحل وجاهة هذه المهنة البحرية من جدهم الشيخ عبدالله بن ناصر الناصر آل بوعينين بالدوحة عام 1820م ثم الوكرة وباختيار طوعي من نواخذة سفن آل بوعينين وغيرهم ثم آلت لابنه الشيخ عبدالرحمن المسحل في الوكرة واختتمت بحفيده الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن المسحل بالجبيل.

 

ومن ذرية الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن المسحل نال حفيده الوجيه محمد بن عبدالرحمن بن عبدالله المسحل آل بوعينين وجاهة عمودية (شيخ الصيادين) بالجبيل في الوقت الراهن .

 

مقالات أخرى